سيدى عبدالرحمن الشريف

ورد النصائج الرحمانية لسيدى عبد الرحمن الشريف

هي مجموعة من الحكم والمواعظ التي خطها سَيِّدِنَا الشَّيْخ عَبْد الرَّحمن الأول بن الشيخ حسين الشَّريف رَضِيَ اللهُ عَنْهُما وقصد بها نفسه من باب التواضع:

باسْمِكَ يَا رَحْمنُ نَبْدَأُ، وَمِنْ حَوْلِنَا وَقُوَّتِنَا نَتَبَرَّأُ، وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى مَنْ أَبْرَزْتَهُ مِنْ أَنْوَارِكَ القُدْسِيَّةِ، وَأَكْمَلْتَهُ بِأَسْرَارِ آياتِكَ وَخِطابَاتِكَ الأُنْسِيِّةِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ كَمَلَةِ الرِّجَالِ، الَّذِينَ مَا تَرَكُوا فِي قُلُوبِهِمْ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِمْ مَجَال.

وَبَعْدُ فَإنِّي عَبْدٌ ضَعيفٌ، أُدْعَى بِعَبْدِ الرَّحمنِ الشَّريف، كَثُرَتْ ذُنُوبي، وَمَلأَتِ الآفاقَ عُيوبي. أُخِذتُ بِفَتْرَةٍ مِنَ الكَسَلِ، وَمُؤَذِّنُ الفَلاحِ يُنَادِي بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ. وَمُذْ تَأَمَّلْتُ هَذِهِ الحَالِةِ، وَوَجَدْتُهَا مُمْرِضَةً بَلْ قَتَّالَةً، جَرَّدْتُ مِنْ نَفْسِي شَخْصَاً يُسَامِرُنِي وَشَبَحَاً بِوَقَائِعِ الْحَالَةِ الْجَارِيَةِ يُخَاطِبُنِي. فَإذا هُوَ يَصُولُ وَيَجُولُ، وَلا تَأْخُذُهُ لَوْمَةُ لائِمٍ فِيمَا يَقُولُ، مُبْتَدِءاً بِقَوْلِهِ فِي كُلِّ خِطَابٍ: (يَا ابْنَ الرُّوحِ)، لا بِالتَّصْدِيقِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِي، لِكَوْنِي أَنْسُبُ نَفْسِي لآبَائِي فِي الطَّرِيقِ مَعَ أَنَّ فِعْلِي مُضَادٌّ لأَفْعَالِهِمْ، بَعِيدُ الشَّبَهِ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. وَصَارَ تَارَةً يَكُدُّ وَتَارَةً يُنَفِّرُ، وَتَارَةً يُرَجِّى وَأُخْرَى يُبَشِّرُ، تَفَائُلاً بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَالعَاقِبَةِ، وَالخَلاصِ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ وَشَائِبَةٍ. وَحَيْثُ جَاءَ بِحَمْدِ الله تَعَالى جَمِيلَ المَعَانِي، بَهِيَّ الْمَوَاعِظِ، حَمِيدَ الْمَبانِي؛ سَمَّيْتُـهَا النَّصَائِحَ الرَّحْمَانِيَّـةَ، وَالإِلْهَامَاتِ الرَّبَّانِيَّةَ. وَهَذَا أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُود، وَمِنْ القَوَاعِدِ المُقَرَّرَةِ أَنَّ الحَسُودَ لا يَسُودُ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ وَالفُؤادِ، دَعْ عَنْكَ الفَساد

يا مُسْرِفَاً عَلَى نَفْسِهِ لا تَقْنَطْ، وَبِإِساءاتِ الظُّنُونِ بِمَوْلاكَ لا تَتَحَوَّطْ، فَلَوْ أَرادَ بِكَ التَّنْكِيدَ، لَما أَلْهَمَكَ بِمَنِّهِ التَّوْحيدَ. وَانْظُرْ بِعَيْنِ الإَنْصافِ، وَدَعْ طَريقَ الاعْتِسَافِ. لَوْ أَنَّ مَنْ فِي الأَرْضِ جَميعاً بِدُونِ عِصْيَانٍ، فَلِمَنْ يَا هَذا رَحْمَةُ الرَّحْمَنِ، وَلَوْ أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي الأرْضِ أَبرَارٌ، فَما مَعْنى اسمِهِ تَعَالى الغَفَّارِ. رَحمَتُهُ وَاسِعَةٌ، وَآلاؤهُ سَاطِعَةٌ. أَحْسِنْ ظَنَّكَ مُسيئَاً أَوْ مُطيعاً، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.

يَا ابْنَ الرُّوحِ وَالفُؤادِ، إِيّاكَ والانْتِقاد

أَنْتَ تَغارُ بِرُؤْيَتِكَ فِي بَيْتِكَ الغَيْرَ، مَخَافَةَ الوَقُوعِ فِي شَرَكِ الضَّيْرِ، فَقَلْبُكَ بَيْتُ المَالِكِ، وَهُوَ أَغْيَرُ مِنْكَ يَا سَالِكُ. فَأَخْلِيهِ مِنْ سِوَاهُ، كَي تَشْهَدَ أَنوَارَ عُلاهُ، إِذْ ما دُمْتَ تَشْهَدُ غَيْرَهُ فَأَنْتَ بَعيدٌ، وَإِنْ أَتيْتَ بِعِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ لا تَسْتَفِيدُ. وَإِنْ تَمَسَّكْتَ بأَذْيَالِ الهَوَى، وَرَفضْتَ مِنْ نَفْسِكَ هِيَ وَالسِّوَى، كُنْتَ القُطْبَ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الكَائِنَاتِ، وَالغَوْثَ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي المُهِمَّاتِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ وَالفُؤادِ، أُعْطيتَ المُراد

شَمْسُ مَعْرِفَتِكَ مُشْرِقًةٌ فِي لَيْلِ كَونِكَ أَفَلا تَراهَا، وبَدرُ وُجُودِ حَقيقَتِكَ فِي سَماءِ السِّرِّ كَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، إنِّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ القُرْبُ بِالظُّهورِ وَالبُطونِ، وَأَنْتَ فِي سِجْنِ الأَوْهَامِ البَاطِلةِ مَسْجونٌ، ورُؤْيَتُكَ أنَّكَ جِرْمٌ صَغيرٌ، مَنَعَكَ العِلْمَ بِأنَّكَ الفَذُّ الكَبيرُ.

وَيْحَكَ تَدَبَّرْ بفِكْرِكَ الأَكيدِ (بَل هُم فِي لَبسٍ مِّن خَلقٍ جَدِيدٍ)، فأَنْتَ الحَيُّ بِهِدَايَتِكَ وَالـمَيِّتُ بِجَهَالَتِكَ، وَالأَسَدُ بِشَجَاعَتِكَ، والضَّعِيفُ بِجَبَانَتِكَ، واللّوحُ بِفطانَـتِكَ، والعِلْمُ بِدِرَايَـتِكَ، وَالعَرْشُ بِحِكْمَـتِكَ، وَالكُرْسِيُّ بِسَعَتِكَ، وَالبُـعْدُ بِفَصْلِكَ، وَالقُرْبُ بِوَصْلِكَ، فَبِوَصْلِكَ كُنْ مُتَيَقِّن (ما وَسِعَنِي سَماءٌ وَلا أَرْضٌ وَوَسِعَني قَلْبُ عَبْدي المُؤمِن). هَذا هُوَ السِّرُّ المَصُونُ. (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).

يَا ابْنَ الرُّوحِ وَالفُؤادِ، وُفِّقْتَ لِلسَّداد

ليسَ العَجَبُ مِنْ شَخْصٍ اعْتَرَفَ بالتَّقْصيرِ وَالجَهْلِ، وَبَكَى عَلَى مَا فَاتَهُ فِي الأَصْلِ مَخَافَةَ الفَصْلِ، إنَّما العَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي المَعَارِفَ، وَهُوَ فِي مَواطِنِ اللَّهْوِ واقفٌ، وَلِرَبِّهِ مُخالِفٌ. يَا عابِدَ الرَّحمنِ اسْتَحِ مِمَّنْ أَنْشَأَكَ مِنَ العَدَمِ، وخَوَّلَكَ مِنْ أَنْواعِ النِّعَمِ، وَرَزَقَكَ الإيمانَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَقيّدَكَ مَعَ مَظاهِرِ قَيُّومِيَّتِهِ. عَجَبَاً كَيْفَ يَأْمُرُكَ بِالانْقِيَادِ فَتَتَكَاسَلُ، وَيُحَذِّرُكَ عَنْ مَعَاصِيهِ فَتَتَغَافَلُ. أَغَرَّكَ بِتَجَلّيهِ عَلَيْكَ بِالحِلْمِ والرَّحْمَةِ وأَنْتَ تَعْصيهِ! أَمْ حَوْلُ رأفتِهِ بِكَ أَوْقَعَكَ فِي التِّيهِ! ما ذَلِكَ وَاللهِ إلا جُنُونٌ، فلا تَكُنْ فِي سِجْنِ الغَفْلَةِ مَرْهُون. واسْتَعْذِبْ التَّعْذيبَ فِي رِضَاءِ الحَبيبِ، فَعَذابُهُ لَكَ فِي العَاجِلِ، دَليلٌ عَلَى سَلْطنَتِكَ فِي الآجِلِ. أَتُظْهِرُ المَحَبَّةَ وَمَا فِي فُؤادِكَ مِنْها وَزْنُ حَبَّةٍ! فَإِنَّ المَحَبَّةَ إِذا سَكَنَتِ القُلوبَ أَظْهَرَتْ عَلَى الجَوارِحِ آثارَ المَحْبوبٍ فَأَوْقدَتْ نارَ المُجاهَدَةِ، عَلَى فُؤادِ المُكابَدَةِ، وَلَمْ تَزَلْ بِهِ كذَلِكَ حَتّى تُشْهِدَهُ جَمَالَ المَسالِكِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ والفُؤَادِ، بَلغْتَ الرَّشَاد

المحبَّةُ عَروسٌ، مَهْرُهَا الأَرْواحُ والنُّفُوسُ. إذَا لزِمْتَهَا يَا مَحْرُوسُ، انَقَادَتْ لَكَ القُلوبُ وَطَأْطَأَتْ لَكَ الرُّؤوسُ. وَأَمّا مَنْ غَرَّتْهُ أَمَانِيهِ وَاشْتَهَى أَنْ يُمْدَحَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، كَانَ أمَرُهُ مَعْكُوسَاً، وَفِعْلُهُ بِهَذَا الشَّأْنِ مَنْكُوسَاً. فَلا تَكُنْ كَمَنْ الْتَبَسَ عَلَيهِ الحَالُ، فعَمِلَ بِالمَعَاصِي فِي صُورَةِ امْتِثَالٍ، فأتْعَبَ نَفْسَهُ بِمَا لا فَائِدَةَ فيهِ، وَأَنَا مِنْهُمْ إِذ الإِنَاءُ نَاضِحٌ بِمَا فِيهِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، تطمَّن وَكُنْ بِشَأْنِكَ فَرُوح

تَحْرِيكُ سَوَاكِنِ هِمَمِكَ فِي البِدَايَة، سَبَبٌ لِحُصُولِ النَّجَاحِ فِي النِّهايَةِ. وَانجِذابُكَ لحضْرتِهِ إشارةٌ واضحةٌ لِقُرْبَتِهِ، إذ بِتَرْكِكَ لَهُ مَا لَكَ وَمَا عَلَيْكَ، عَلامَةٌ عَلَى أَنَّهُ المُتَطَلِّبُ إِليْكَ. فهُوَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ، فلا تَكُنْ بِنَفْسِكَ مَحْجُوبٌ. وَصِلْ آمالَكَ بِآمالِهِ، وَارْبِطْ حِبَالَكَ بِحِبَالِهِ، تَنَلْ ما تَرْتَجِيهِ، وَتَلْقَ مِنْ كَرَمِهِ ما تَبْغيهِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، لا تَكُنْ لَحوح

شَرَابُ الوُصُولِ صَفا وَرَاقَ، وَطفِقَ فِي سَائِرِ الآفَاقِ، فَكُنْ بِالحِلْمِ مُتَخَلِّقَاً، وَبِالرَّحْمَنِ مُتَعَلِّقَاً، وَاجْعَلِ الزُّهْدَ شِعَارَكَ، وَالوَرَعَ وَقَارَكَ، وَالذِّكْرَ أَنِيسَكَ، وَالفِكْرَ جَلِيسَكَ، تَظْهَرْ لَكَ خَفَايَا الأسْرَارِ، وَيُكْشَفْ لَكَ عَنِ الآخِرَة وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، كُنْ عَنِ الزَّلاتِ صَفُوح

لا تَزْدَرِ حُلَّةَ الفُقَرَاءِ فَإنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالمَعَارِفِ مَحْفُوفَةٌ بِشَوَارِقِ الأسْرَارِ وَاللَّطَائِفِ. سَارَ الفُقَرَاءُ لِمَوْلاهُمْ وَوَقَفَ الكلُّ، وَأَصَابُوا وَوَصَلوا وَبِغَيْرِهِمُ انقَطَعَ الحَبلُ، وَوَحَّدوهُ وَنَجَوْا مِنَ الإشْرَاكِ، وَوَقَعَ المُعارِضُ فِي الجَهلِ، فَكُنْ بارتِباطِكَ وَاثِقَاً، ولغَيرِكَ وَأنبائِهِ مُوافِقاً، وَدَعْ العَاذِلَ فَكَمْ أَعْمَتِ الغَفْلةُ قُلُوباً، وَكَمْ أَخَّرَتِ الأَمَّارَةُ والقَسْوَةُ مِنَ مَطْلوبٍ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، لا تَكُنْ عَنْ بَابِهِ بَرُوح

كَمْ أَخَّرَ الكَسَلُ عَنِ المَحْبُوبِ قُلُوبَاً، وَكَمْ كَشَفَ الإقْدَامُ لِلبَصَائِرِ غُيُوبَاً، وَكَمْ ضَيَّعَتِ الأوْهَامُ أَقْوَامَاً، وَكَمْ نَشَرَ الإقْبَالُ للبَشَائِرِ أَعْلامَاً، فَكُنْ فِي الثَّرَى بِجِسْمَـانِيَّـتِكَ وَفِي العُلَى بِرُوحَانِيَّتِكَ، وَمَعَ الخَلْقِ بِظَاهِرِكَ، وَمَعَ الرَّبِّ بِبَاطِنِكَ، (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ).

يَا ابْنَ الرُّوحِ، هَذا الشَّأْنُ المَمْدُوح

تَزْعُمُ أَنَّهَا دَارَتْ عَلَيْكَ العنَايَةُ، وَأَنَّكَ أُعْطِيتَ منشورَ الوِلايَةِ، وَبُسِطَ لَكَ بِسَاطُ الإصْلاحِ، وَهَبَّ عَلَيْكَ نَسِيمُ السَّمَاحِ، وَوَقعَتْ لَكَ المُلاطَفَةُ، وَحَصَلَتْ لَكَ المُكَاشَفَةُ، وَلُحِقْتَ بِمَقَامَاتِ الأَقْدَمِينَ، وَكُتِبْتَ مِنَ العَارِفِينَ، وَتُكْثِرُ الحِيَلَ، وَتُطِيلُ الأَمَلَ، النَّاقِدُ بَصِيرٌ.. ارْجِعْ يَا فَقِيرُ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، خُذْ طَريقَ الوُضوح

مَا أَبْهَى مَنْ بِخِلعِ القَبُولِ تَحَلَّى، وَشَاهَدَ نَفَحَاتِ الرَّحْمنِ وَتَمَلَّى، وَمَا أَشْقَى مَنْ وَصَلَ لِلْبَابِ وَلَمْ يَرُدَّهُ حُجَّابٌ وَلا بَوَّابٌ، وَتَقَهْقَرَ طَلَبَاً لِشَهْوَةٍ فَانِيَةٍ آثرَهَا عَلَى حَيَاةٍ بَاقِيَةٍ، تَأَمَّلْ يَاذا الفِكْرِ النَّفِيس، مَا هَذَا الفِعْلُ المُزْرِي الخَسِيسُ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، خُذْ طَريقَ الوُضوح

مَا أَبْهَى مَنْ بِخِلعِ القَبُولِ تَحَلَّى، وَشَاهَدَ نَفَحَاتِ الرَّحْمنِ وَتَمَلَّى، وَمَا أَشْقَى مَنْ وَصَلَ لِلْبَابِ وَلَمْ يَرُدَّهُ حُجَّابٌ وَلا بَوَّابٌ، وَتَقَهْقَرَ طَلَبَاً لِشَهْوَةٍ فَانِيَةٍ آثرَهَا عَلَى حَيَاةٍ بَاقِيَةٍ، تَأَمَّلْ يَاذا الفِكْرِ النَّفِيس، مَا هَذَا الفِعْلُ المُزْرِي الخَسِيسُ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، تآنَسْ بأَهل الفُتوح

عَلامَةُ هُبُوبِ نَسَمَاتِ العِنَايَةِ عَلَيْكَ اقْتِطَافُكَ لأثْمَارِ رِيَاضِ التَّوْفِيقِ. فَإِنْ دَامَتْ الهِدَايَةُ إِلَيْكَ سَاقَتْكَ إِلَى أَنْ تَرِدَ يَنَابِيعَ حِيَاضِ التَّحْقيقِ، فَتَصِيرُ لَيَالِيكَ أَفْرَاحَ، وَأوْقاتُكَ دَوْمَاً فِي انْشِرَاحٍ، وَأَمْرُكَ يَؤُلُ إِلَى مَنْ يُنَادِيكَ وَيَقُول: هَلُمَّ إِلَى بَابِي، فَقَدْ رَفَعْتُ لَكَ حِجَابِي، وَعَرَّفْتُكَ جَنَابِي.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، تَأَسَّف بِقَلْبٍ مَجْرُوح

أَوْقِدْ مِصْبَاحَ الذِّكْرِ تَلُوحُ لَكَ الأعْلامُ، وَتَقرَّبْ لِبَادِيَاتِ الشَّوْقِ تَظْهَرْ لَكَ الخِيَامُ، وَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، وَارْفُضْ كَوْنَيْكَ؛ الكُلُّ لَكَ مَوْهُوبٌ، فَلا تَكُنْ مَحْجُوب.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، سرٌّ يَلُوح

إِنْ لَمْ تَكُنْ رَحْمَانِي فَأَنْتَ شَيْطَانِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نُورَانِي فَأَنْتَ ظُلْمَانِي، عَجَبَاً لِمَنْ يُؤْثرُ الظُّلْمَةَ عَلَى النُّور، وَيَدَعُ التَّحْقِيقَ تَبَعَاً لِلْغُرُور، فَقُمْ فِي مِحْرَابِ الأذْكَار، وَتهَيَّأْ لقَبُولِ الوَارِدَاتِ الأبْكَار، فَللرَّحْمنِ جَنَّاتٌ تُدْنِي البَعِيدَ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ حَبْلِ الوَرِيد، فَتَنَبَّهْ وَبِالكِرَامِ تَشَبَّهْ يَبْدُ لَكَ حَظٌّ لا يَحُولُ، وُمُلْكٌ لا يَتَزَلزَلُ وَلا يَزُولُ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، لا تَخَفْ أَنْتَ مَمْنُوح

جِدَّ فِي المَسِيرِ تُصْبِحُ لَكَ الأسْرَارُ عَائِدَةٌ، وَافْنَ فِي الحُبِّ تَكُنْ لَكَ الحَيَاةُ خَالِدَةً، فَالعُمْرُ يَذْهَبُ، وَالأوْقَاتُ تُنْهَبُ، وَالأمْرُ بِأَعْمَالِكَ السُّوءِ وَاضِحٌ، كَأَنَّكَ أَعْمَى وَأَصَمُّ عَنِ النَّصَائِح، فَيَا لِهَذَاَ العَارِ مِنْ عار، اسْتَعْبَدَتْكَ الدُّنْيَا وَأَهْلُ الإخْلاصِ أَحْرَارٌ، فَمَا رَجَعَ مَنْ رَجَعَ إلا بِمُرَاقَبَةِ الأغيَار، وَمَا وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إلا بِرَفْضِ الآثَار، فَإِلَى مَتَى أَنْتَ فِي قَطِيعَةٍ، بِخَيَالاتٍ كَسَرَابٍ بِقِيعةٍ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، كُنْ بِما تَمْلِكُ سَمُوح

مَنَحَكَ وَقْتَاً لِتُنَاجِيهِ، وَخَلَّاكَ زَمَنَاً لِتَرْجِعَ إلَيْهِ فَتُصَافِيهِ، أَفَلا تَفِقْ مَنْ سَكْرَتِكَ، أَفَلا تَصْحُو مِنْ غَمْرَتِكَ، أُدْنُ مِنْهُ وَلَوْ مُنِعْتَ، وَالْزَمْ حِمَاهُ وَلَوْ طُرِدَتْ، فَهُوَ المُتَجَلِّي عَلَيْكَ بِالرَّحْمَةِ وَإنْ أَسَأْتَ، فَارْحَلْ بِهْمَّتِكَ إِلَيْهِ، وَارْكَبْ مَطيَّةَ حَزْمِكَ عَلَيْهِ، وَاشْكُ لَهُ ألَمَ الفِراقِ، فَإِنَّهُ يُجِيبُكَ بِرَأْفَةِ التَّلاقِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، هِبْ لِلرّوح

صَحِّحْ مَرَامَكَ وَأَدِمْ الحَزْمَ وَلا تَكُنْ عَسُوفَ، وَدَعْ تَعَلُّلَكَ بِعَسَى وَسَوفَ. وَبِفِكْرِكَ تَصَدَّى، وَلِطوْرِكَ لا تَتَعَدَّى. (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا). قِفْ عَلَى أَقْدَامِ المُناجَاةِ، مُرَاقِبَاً لَهُ طارِحاً لِلمُبالاةِ. وَبِرْدَاءِ العَوَاذِلِ لا تَتَرَدَّى. (لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا). (وَكُلٌّ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فرْدَاً).

يَا ابْنَ الرُّوحِ، كن عَلَى الخَيْرِ جَموح

خُذْ حِذْرَكَ مِنْ شَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإنْس، وَفِرَّ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ مِنَ النَّفْس، وَاسْتَعِنْ بِسَطْوَةٍ مِنْ جَلالِهِ وَبَسْطَةٍ مِنْ جَمَالِه، وَاسْتَهْلِكْ أَفْعَالَكَ فِي أَفْعَالِه، وِاجْمَعْ شُهُودَكَ فِيهِ، وَغَيِّبْ مَشْهُودَكَ عَمَّا يُظْهِرُهُ وَيُبْدِيهِ، تَظْهَرْ شُموسُ مَعْرِفَتِكَ فِي أُفْقِ القِدَم، وَيَصِيرُ لَكَ فِي مَقَامَاتِ العَارِفِينَ قَدَمٌ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، البَابُ مَفْتوح

إِلَى مَتَى أَنْتَ فِي الذُّنُوبِ غَرِيقٌ، وَإِلَى مَتَى هَذَا الجَفَاءُ وَالتَّعْوِيق، خُذْ لَكَ فِي الطَّرِيقِ رَفِيق، قَبْلَ أَنْ تَنْقَطِعَ الطَّرِيق. وَلا تُطْفِئْ بِهَوَاكَ أَنْوَارَ التَّوفِيق. أَتُرِيدُ أَنْ تَذْهَبَ هُبُوبُ نَسْمَاتِ الوُصُولِ وَأَنْتَ سَكْرَانُ لا تَفِيقُ، حَمَّلَتَ وَاللهِ نَفْسَكَ مَا لا تُطِيقُ، أَتَغْتَرُّ بِالمَالِ وَالوَلَدِ وَالأهْلِ، أَمْ بِإِقْبَالِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ وَهِيَ آمِرَةٌ بِالقَتْلِ، فَاخْرُجْ مِنْ ظُلُمَاتِ العَمَى، إِلَى فَضَاءِ نُورِ الهُدَى، وَتَزَوَّدْ فَقَدْ سَارَتْ الظُّعُون، وَلا بُدَّ مِنْ وُرُودِ كَأْسِ المَنُون، وَتَنَبَّه فَكَمْ لَعِبَ بِمِثْلِكَ الْهَوَى، وَلَمْ يُفِقْ إِلا وَقَدْ حَانَ النَّوَى، وَتَضَرَّعْ بِالصَّبْرِ وَجَاهِدِ النَّفْسَ، تَسُوقُكَ العِنَايَاتُ إِلَى مَجَالِسِ الأُنْسِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، اطْلُب الفُتُوح

أَتَطْلُبُ الدُّنْيَا وَالدُّنْيَا فِيكَ، وَتَتَخَلَّفُ وَالرَّحْمَنُ يُنَادِيكَ، فَوَاعَجَبَاً لِمَنْ يُطْلَب لِيُعْطى المُلْكَ فَيَأْبَاه، وَيَتَشَبَّثُ فِي جَمْعِ الأَخَسِّ وَيَتَمَنَّاهُ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، كن بما وَهَبْتَ مَشْروح

حِفْظُ العُهُودِ فِيهِ الوُرُودُ، لأَقْرَبِ مَقَامٍ مَحْمُودٍ، أَقْبِلْ وَلا تَكُنْ شَرُودَاً أَوْ مَرْدُودَاً، فَالهَارِبُ مَطْرُودٌ، وَالمَرْدُودُ أَمْرُهُ بِالقَطِيعَةِ مَشْهُودٌ، إِلَى كَمْ ذَا التَّمَادِي يَا فَقِير، وَأَنْتَ فِي البَطَالَةِ وَالتَّقْصِير، وَتَزْعُمُ أَنَّكُ بِالأمْدَادِ جَدِيرٌ، وَبِنَقَائِصِكَ النَّاقِدُ بَصِيرٌ، ضَيَّعْتَ أَوْقَاتَكَ وَالْعُمْرُ انْقَضَى، فَعَجِّلْ بِالإقْبَالِ وَانْدَمْ عَلَى مَا مَضَى، فَبَابُ الْعَفْوِ وَاسِعٌ، وَالأنْوارُ فِيهِ سَوَاطِعٌ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، لا تَدَعْ نُصْحَنا مَطْروح

جَوَلانُكَ مَعَ الغَافِلِينَ حَيَّرَكَ، وَرُكُونُكَ لِلأغْيارِ غَيَّرَكَ، وَوُقُوفُكَ بَيْنَ رُتْبَتَي الاعْتِقادِ وَالانتِقَادِ إِلَى الانقِطَاعِ أَدَّاكَ، وَنَذِيرُ الرَّحِيلِ المُشَاهَدُ لِعَيْنِكَ بِالتَّحْقِيقِ وَافَاكَ، فَمَا هَذِهِ القَسْوَة، نَدِمَ مَنْ سَبَقَكَ عَلَى التَّفْرِيط، وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، إنّي نَصُوح

قَلْبُكَ عَنْ الْمَحْبُوبِ غَائِبٌ، وَبِالرَّأفَةِ يُنَادِي هَلْ مِنْ تَائِبٍ هَلْ مِنْ آيِبٍ، وَأَنْتَ مَشْغُولٌ بِالهَوَى، مَفْتُونٌ بِالمُنَى، وَوَاقِفٌ مَعَ مَا تُوقِنُ أَنَّ عُقْبَاهُ الفَنَا، وَتَطْلُبُ مِنَ الله المَوَاهِبَ، وَحِفْظَكَ مِنَ الوُقُوعِ فِي المَصَائِب، هَذَا أَمْرٌ مِنَ العَجَائِب، وَأَمَلُكَ فِيهِ خَائِبٌ، فَانْهَضْ لِهِمَّتِكَ عَنْ هَذَا الانْحِطَاط، وَتَدَارَكْ مَا وَقَعَ مِنْكَ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالإفْرَاطِ وَالزَمْ التَّفْسيرَ لِيَهونَ لَكَ العَسِيرُ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، عَرْفٌ يَفُوح

أَمَا آنَ أَنْ تَرْجِعَ لِبَابِ مَوْلاكَ، لابِسَاً جِلْبَابَ الوَرَعِ رَافِضَاً لِدُنْيَاكَ، وَقَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ وَأَعْطَاكَ. وَإِلى الدّينِ الخَالِصِ قَرَّبَكَ وهَداكَ، وَفِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ بِرُّهُ يَغْشَاكَ. تُؤْثِرُ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى، فَوَالله مَا هَذَا إِلا قُنُوطٌ أَوْ اتْهام أَوْ إِشْرَاكٌ، وَمَعَ هَذَا إِنْ عُدْتَ إلَيْهِ بَادَرَكَ بِالقَبُول، وَأْلبَسَكَ حُلَلَ المَطَالِبِ وَالمَأْمُولِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، عَلَى نَفْسِكَ نُوحْ

لا تَغْتَرَّ بِإِحْسَانِه، مَعَ إِدْمَانِكَ عَلَى عِصْيَانِه، فَبِهَذَا الإِحْسَانِ أَلْهَاكَ عَنْه، وَلَمْ تَأْخُذْ نَصِيبَكَ مِنْه. بِهِ أَغْفَلَكَ عَنْ طَاعَتِه، وَأَنَامَكَ عَنْ لَذَّةِ مُنَاجَاتِه، وَأَحْرَمَكَ فِي الأَسْحَارِ لَذَّةَ عِتَابِه، وَطِيْبَ مُنَادَمَتِهِ وَخِطَابِهِ. فَحَقِيقَةُ هَذَا الإِحْسَانِ بُعْدٌ، وَإِنِ اطْمَأْنَنْتَ بِهِ فَطَرْدٌ.

يا ابْنَ الرُّوحِ، نورٌ يَلُوح

إِذَا اتَّسَعَ لَكَ مَجَالُ الإِمْهَالِ مَعَ العِصْيَانِ فَلا يَأْخُذْكَ الغُرُورُ. فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَكَ لمَا أَقَامَكَ فِي هَذَا الأَمْرِ المَحْذُورِ. وَإِنِ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْكَ النَّفْس، فَجَعَلَتِ القَضِيَّةَ بِالعَكْسِ، فَأَنْتَ غَارِقٌ فِي بَحْرِ التِّيه. أَنْقَذَكَ اللهُ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، فِي عَرَصَاتِ الأَرْضِ سُوحْ

انْظُرْ لِدُنْيَاكَ بِعَيْنِ الاعْتِبَار، لِتَتَيَقَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارٍ، فَإِلَى كَمْ تَتَحَمَّلُ الأَوْزَارَ وَهِيَ ثِقَال، إِلَى مَتَى تَتَعَلَّلُ بِالتَّسْوِيفِ وَالآمَال، إِلَى كَمْ تَتَبِّعُ الشَّهَوَاتِ وَالإِضْلال، تَيَقَّظْ مِنْ نَوْمَتِكْ، وَانْتَبِهْ مِنْ غَفْلَتِكْ وَقِفْ بِبَابِ مَنْ أَنْتَ عَبْدٌ لَه، فَمَنْ لَزِمَ قَرْعَ بَابٍ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ.

يَا ابْنَ الرُّوحِ، لِرَبِّكَ رُوحْ

الرَّحْمنُ يَدْعُوكَ فَـتَتَأَخَّر، وَيَأْمُـرُكَ بِالإِنَابَةِ فَتَـتَكَدَّر، وَيَسْتَحْضِرُكَ لِمُرَاقَبَتِهِ فَتَتَوارَى. فَإِلى مَتَى ضَيَاعُكَ مَعَ الحَيَارَى، وَتَـرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى. وَيْحَكَ بَادِرْ بِالتَّوْبَة، وَأَسْرِعْ إِلَى مَوْلاكَ بِالأَوْبَة، وَارْكَبْ بَحْرَ النَّدَامَة، وَأَقْلِعْ بِرِيحِ الْمَلامَةِ وَتَأَهَّبْ لِحُبِّ مَنْ يَدْعُوكَ لِلْقُرْب، فَإِقْبَالُكَ عَلَيْه، عَلامَةٌ عَلَى الوُصُولِ إِلَيْهِ.

الشيخ عبد الرحمن حسين الشريف الأول

زر الذهاب إلى الأعلى